مقدمة لديوان "شذرات من رحيق المناسبات" للشاعر الكبير خالد سعد عبد الحميد فيصل بقلم: الأستاذ الدكتور/ بكر إسماعيل الكوسوفي

 






مقدمة لديوان "شذرات من رحيق المناسبات"

للشاعر الكبير خالد سعد عبد الحميد فيصل

 

بقلم: الأستاذ الدكتور/ بكر إسماعيل الكوسوفي

السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية 

عضو مجمع اللغة العربية - مراسل في مصر

عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر

يشكّل ديوان "شذرات من رحيق المناسبات" للشاعر الكبير خالد سعد عبد الحميد فيصل



 إضافةً نوعيةً للمشهد الشعري العربي المعاصر، بما يحمله من عمق فكري وجمالية فنية وسياقات دلالية متشابكة. إنه ليس مجرد تجميع لقصائد مناسباتية، بل خطابٌ شعريّ مركب، ينطلق من اللحظة الآنية لينفتح على أسئلة الوجود، الهوية، والتسامي الروحي، ضمن معمار لغوي ينهل من تراث الشعر العربي ويعيد توظيفه برؤية معاصرة.

من أبرز ما يلفت الانتباه في هذا الديوان هو حضور البعد الوجودي الذي يتجلى بوضوح في قصيدة "أنا لست أبكي"، حيث يتحول الموت من كونه نهايةً إلى كونه فعل مقاومة وخلود:

"إن يقتلوك فإن موتك جذوةٌ... فيها لدى الظلمات كل ضياء".

بهذه الرؤية، لا يكون الرثاء رثاءً تقليديًّا، بل بيانًا وجوديًّا يقدّم الفقد بوصفه مصدرًا للقوة، والشهادة كاختيار نابع من وعيٍ متعالي، لا كقدر مفروض. هذا البعد الفلسفي لا ينعزل عن باقي البنية، بل يتغلغل في مختلف مستويات القصائد.

تعتمد قصائد الديوان على بنية رمزية غنية، تتوزع فيها الرموز الكبرى كالضوء، السيف، والعفو. فرمز الضوء، المتكرر في أكثر من موضع، لا يعكس فقط النقاء والحق، بل يصبح علامة للمقاومة والوعي الجمعي. أما السيف، فليس أداة عنف، بل رمز للهوية والثبات، كما في قول الشاعر: "السيف السيف ولا غير". في حين يُعاد تأويل مفهوم "العفو" في قصيدة "مولاي" ليغدو مشروعًا حضاريًّا جامعًا لا مجرد نزعة فردية نحو الغفران: "للآثمين العفو عمر ثان".

البنية الإيقاعية في الديوان تواكب هذا العمق الرمزي والدلالي، إذ يلجأ الشاعر في "أنا لست أبكي" إلى بحر الكامل بما فيه من ثقل إيقاعي يعكس ثقل المأساة، في حين يأتي التقطيع الداخلي في "عفوا فيروز" ليحاكي توتر الثائر واشتداد اللحظة. كذلك تُوظف الحروف والمقابلات الصوتية بعناية فنية، كما في التباين بين السين والفاء، مما يخلق تموجًا صوتيًّا يحاكي صراع الهويات والانفعالات الداخلية.

ومن حيث اللغة، يشتغل الشاعر على مستويات متعددة من الانزياح: دلاليًّا، حين يحوّل "العفو" من دلالة سلبية إلى مشروع تحوّل أخلاقي جماعي؛ وتركيبيًّا، حين يُقدّم الخبر على المبتدأ، أو يستخدم الزمن المضارع بدل الماضي، ليمنح الفعل الشعري استمرارية وراهنية.

السياقات الثقافية للديوان تكشف عن تفاعل خصب مع فضاءات متعددة: من خطاب الشهادة في الشعر الفلسطيني، إلى شعر المقاومة في لبنان، وصولًا إلى الموروث الصوفي الإسلامي. ففي "مولاي"، نستشعر أصداء الفتوحات المكية لابن عربي، لا سيما في تحوّل العلاقة مع الله إلى تجربة روحية مفتوحة على معاني التوبة، الصفاء، والتجلي.

كما يفتح الديوان أفقًا نقديًّا للمقارنة مع تيارات الشعر العربي الحديث، إذ يقدم نموذجًا متماسكًا لما يمكن أن يُطلق عليه "الشعر المحافظ المتجدد"، الذي يستوعب التجربة الشعرية الحديثة دون أن يفرّط بجوهر الشعر العمودي وقيمه الإيقاعية والبلاغية.

تتجلّى في الديوان ثلاثية شعرية متميزة تشكّل نسقًا دلاليًّا متكاملاً:

شعر المقاومة في "أنا لست أبكي"،

شعر الهوية في "عفوا فيروز"،

وشعر التطهير الروحي في "مولاي".

ثلاثيةٌ تبدأ بالرفض، تمرّ بالتشبّث، وتنتهي بالتسامي، مشكّلة بذلك سيرة رمزية لجماعةٍ تبحث عن خلاصها، وتعيد إنتاج خطابها الأخلاقي والسياسي والروحي عبر الشعر.

انطلاقًا من ذلك، فإن قراءة هذا الديوان تتطلب أدوات تحليلية متعددة: سيميائية، نفسية، وصوفية، تتيح فهم تحولات المفاهيم الكبرى (كالشهادة، والعفو، والنور)، وتتبع البنية الإيقاعية بوصفها حاملًا دلاليًّا، ومقارنة النموذج الجمالي المقترح مع شعر الحداثة العربية، دون السقوط في القطيعة أو التبعية.

إن "شذرات من رحيق المناسبات" ليس فقط شهادة شعرية على اللحظة، بل هو كذلك وثيقة ثقافية، ونصٌّ حيّ يتفاعل مع أسئلته الكبرى، ويجسّد بلغة الشعر روحَ أمةٍ لا تنكسر، بل تواصل سعيها نحو النور.

تعليقات