رأسٌ مملوء حكايات
مقتطفات حياتية
أحمد طايل
دوَّار يا زمن دوَّار
…
من سنواتى الأولى، وهذا البيت يثير التساؤلات داخلي، ولكني كنت أتراجع عن إخراج ما بداخلي، أحيانًا بسبب صغر السن، وأحيانا خجلًا، وكثيرًا خشية أن يكون تساؤلي مثار تهكمٍ، هذا ماخيل إلي، هذا البيت الذي يقع بمدخل القرية، هذا المنزل الذي أصبح مهجورًا بشكل كبير، سمع الكثير من الحكايات، ولكنها تصبّ في مسار واحد، كل الطرق لابد لها من المرور به، بيت متسع المساحة، تحيط به الأشجار على تنوعها حول مبنى مكون من ثلاثة طوابق، مبنى على طراز لا يوجد مثله إلا بالمدن، بالشوارع التى نالت صفة حي الكبار، على تنوع المعنى، كبار ماليًا، كبار إجتماعيًا، كبار نجوم، مجتمع الفن..الفكر والسياسة، رجال الأعمال.
على بوابته يجلس حارس لا يترك مكانه مطلقًا إلا لقضاء حاجته، التي لا يمكن قمعها حتى تنتهي نوبته..وآخر على نفس الوتيرة..مساءً، المبنى مطلي بلون أبيض .حتى أن بعض أبناء القرية أطلقوا عليه: البيت الأبيض، السقف مائل بشكل يمنع مياه الأمطار من التراكم عليه..مزين بقرميد أحمر قاني..
يتم غسل المبنى بشكل أسبوعي، الطريق أمامه مفروش بحصى أبيض صغير تعلوه طبقة رملية، إعتدنا وإعتاد أهل القرية،الخميس الأخير من الشهر أن تنحر الذبائح، وتوزع على الجميع، الرجل معروفٌ بكرمه دومًا، ومعروف عنه انه حلّال العُقد والمشاكل.
الكل يلجأ له، هو بطبعه هادئ، حكيم، قراره دومًا صائبٌ وبموضعه،
يمتلك مساحات شاسعة من الأراضي، هناك من يقول مائة فدان.وهناك من يقول أنها تجاوزت المائتين،يشرف بنفسه على كل أعمال الزراعة،والحصاد.
عند الحصاد يجلس على كرسيه المرتفع قليلًا، بجلبابه الكشميري، وعباءته، قبل أن تذهب محاصيله إلى مخازنه وصوامعه، يحدد ما يقدم لغير القادرين من أبناء القرية، يكلف رجاله بالذهاب إلى بيوت معينة، يجزل العطاء للعاملين، الذين يحاولون تقبيل يده، هو يرفض تماما هذا الفعل.
يعود إلى دوّاره كما أطلق عليه أهل القرية، وهو المسمى الوحيد بالبلدة، حتى بيت العمدة لم ينل حظًا بهذه التسمية، متزوج من سيدتين،إحداهما قاهرية بنت حسبٍ ونسب، والاخرى إبنة خالته المتزوجة بالإسكندرية، لم يرهم أحد من أهل القرية، إلا العاملات بخدمتهم، اللاتي قلن دومًا أنهما رائعتا الجمال، هوانم بجد، حتى السائق الذى يأخذهم للمركز لقضاء حاجاتهم لا يعرف وجوههم، دومًا منسدل على الوجوه غطاء رأس سميك يخفي تماما طلة الوجه، ولا يظهر إلا العينين بالكاد، ولا حديث يتم بينهم، ولا يمكن له أن يتنصت على أحاديثهما، أو حتى ينظر بالمرآة أو يلتفت إليهما.
كان عادلًا، قالوا بالقرية أنه خلق للعدل، حين يقصده صاحب شكوى أو مظلمة أو إستشارة، يبدي رأيه بحياد تام، حتى لو كان أحد الاطراف من أهله أو إخوته أو أقاربه .
حين كان يسير مترجلًا أو ممتطيًا حصانه الأشهب، كل من يمر به، لابد من الوقوف والتحية خالصة من القلوب بصوت عال مسموع.
الخميس الأخير من الشهر يوم ينتظره الجميع، بعد الإنتهاء من نحر الذبائح وتوزيعها، تبدأ مراسم الاستعداد ليوم إستثنائي واعتادوا عليه، تسوية الشارع أمام الدوّار، إضافة طبقة رملية، إعداد المقاعد والموائد، إعداد أدوات الشواء، جهاز الراديو الكبير، طقس معد سابقًا، يبدأ بالقرآن الكريم على إذاعة القرآن الكريم، عند المغيب تبدأ السيارات بالوفود، ماركات متعددة تنبأ عن مكانة صاحبها، وجياد مسرجة بما يشي بوجاهة صاحبها، أصحاب أزياء مختلفة، الجلباب على تنوع طريقة تفصيله، عباءات، بدلات تحمل أسماء بيوت أزياء محلية وأخرى من بلاد أخرى، روائح تفوح من كل منهم.
البعض يصطحب حريمه، يدخلن إلى البهو، يجدن زوجتيه، بعد إكتمال وصولهن، يغلق الباب عليهن، لهم مفردات خاصة بأحاديثهن، الرجال يتبادلون الحديث، جماعة..أو جماعات، تتداخل الأصوات، تعلو الضحكات مقابل مقولة فكاهية، و الحكي عن موقف مثير للدهشة، يتم الشواء على الفحم، يقوم به طهاة مميزون يتعامل معهم من سنوات، تعد الموائد بشتى أنواع الطعام والمشروبات، تستمر السهرة إلى ما شاء الله، ينصرف الجميع مودعًا بصدق الحب والسعادة، كنا صغارً نجلس على البعد، نسمع الأحاديث والضحكات، كان كثيرًا ما يرسل لنا بعضًا من الأطعمة والحلوى..
كان بالأعياد يستجلب سيارة نقلٍ كبيرة محملة بملابس بقياسات متعددة، للأولاد والبنات، يرسل بها إلى بيوتٍ بعينها تحت جنح الظلام..يذهب إلى المدارس بداية كل دراسة..يطلب كشفًا بأسماء غير القادرين ..يسدد عنهم المصروفات دون أن يسبب لهم حرجًا، وكثيرًا مايبعث لهم بملابسَ وأدواتِ الدراسة.
كان دومًا بشوشًا وضحوكًا، يداعب الصغار، كنا نتعمد إلاقتراب من الدوّار حتى ننال حظًا من عطاياه..طعاما وحلوى.
كان بالمولد النبوى يجئ بالمدّاحين والمنشدين وأصحاب الرايات، ونحر الذبائح ومد الموائد وتوزيع الحلوى، والأحصنة والعرائس وكل الاشكال المصنعة من حلوى المولد.
أتذكر أن الكثيرين يقولون أنهم عندما يذهبون لقضاء حاجتهم بالمركز لدى المصالح الحكومية، ويعرفون أنهم من القرية، على الفور يقولون..
=انتم من بلد (محسن بيه الحمادي).
وصار الإسم الرسمي لقريتنا هو إسمه، رغم هيبته ومكانته الكبيرة الذى يشهد بها القاصي والداني، إلا أنه كان عفويًا، يمارس حياته دون أي تكلف.
كنا ونحن صغار، نتسلق أسوار الدوّار بعد المغيب، أحيانًا كنا نراه يلعب مع أولاده وكأنه طفل مثلهم، يركض وراءهم، يتبادل لعب الكرة معهم، يضاحكهم، لم يصنع حاجزًا بين أولاده وبين أبناء القرية، بل كان يطالبهم بالخروج ومشاركتهم حياتهم، كثيرا ما كان يذهب بهم إلى ملعب الكرة، يشاهدهم وهم يلعبون ويشجعهم، حتى إبنتاه..لم يحظر عليهم من الانطلاق إلى الحياة بين بنات القرية، حرص على تعليم أبنائه، أن لا فرق بينهم وبين الأخرين، كان بسيطًا، حكوا عنه من كانوا يقومون بأعمال الزراعة باراضيه أنهم كانوا يفاجئون به ينزع ملابسه ويضعها جانبا، ويظل بملابسه الداخلية وينزل الأرض، يغوص بطينها،عندما يعترضون عليه، كان يرد عليهم.
= دعوني أستنشق الحياة، أستعيد أيامي، من ينسى أمسه لا يوم ولا غد له، يشاركهم أغانيهم، كان مبعث بهجة، الكل يدعو له سرًا وعلانية، لا يجد بالعيون أو من الموقف الذى يشعره أن البعض ساخط عليه..من أحبه ربه، أحبه الجميع.
سارت حياته على هذا النمط، لم يتغير مع الزمن، قمة الحب ظهرت عندما تعرض لمرض الموت، وأدخل لمستشفى كبرى، رغم المسافات، كانت كل الشوارع المحيطة بالمستشفى محاطة بالمئات من أهالي القرية، البعض لم يغادر مطلقًا، الأصدقاء لم يتركوا لحظةً دون السؤال والحضور إليه، بل إن بعضهم بعلاقاته بأصحاب القرار أتوا بأطباء خبراء من كل ربوع مصر، طال مكوثه بالمستشفى أكتر من شهر، حتى أتت لحظة الموت.
حكوا عندما وصلهم الخبر،
المحيطين بالمستشفى تسمرت أقدامهم، جحظت أعينهم، أخرست ألسنتهم، علا النحيب، وعلا الصراخ، القرية.خرجت عن بكرة أبيها تنتظر الجثمان على مدخل القرية، القرية أفرغت ما بها والتفوا حول الدوّار، وعلى المقابر، وعلى مداخل القرية، يعلوهم الصمت، يسودهم البكاء بحرقة، كان مشهدًا مهيبًا، أستمر الحداد يغلف كل حياة القرية، الكل لا يستوعب الحدث، تشعر أنهم يسيرون ويتعاملون مع حياتهم وكأنهم تحولوا إلى ربوتات، جلس الأبناء بعد مرور شهور بمكتبه، فتحوا خزينته، وجدوا أن العدل كان معه طوال الوقت، كتب لكل منهم نصيبه موثقًا بالعقود الخضراء، كما يقولها أهل القرى على العقود، وجدوا وصية..أن يظل الدوّار للجميع، وأن ينهجوا منهجه، استمروا لسنوات ثم أخذتهم الحياة، ونسوا الدوًار تمامًا، لاتجد زيارات إلا على فترات كبيرة، أصابته الشيخوخة، والشروخ، وذبل الشجر حدادً، وضاع لونه الأبيض، ولكن.ما بقى وهو مصدر الدهشة، أن من يمر أمامه يقف تلقائيًا، يمعن النظر، تدمع العيون، هكذا حال الكثير من البنايات فى كل الأماكن، يرحل ساكنوها وتشتت بهم السبل، ولكنها تظل حاملة لذكرياتٍ لا تمحى، مهما تعاقبت عليها السنوات ، البعض يتمتم.
= وضاعت الهوية من بعدك.
يموت الشيخ، تموت مكتبته..هكذا قالها. سنجور..أقولها أنا.
= مات الشيخ، وماتت معه كثيرٌ من السعادة.
…
كتبها الكاتب الأستاذ
أحمد طايل
