ميلادٌ جديد
…
قرر أن يقضي ليلته هناك، قالت أمه في استعطاف:
سأذهب معك، ولكنه رفض بشدة وقال في عتاب
ـ اذهب دائما بمفردى، لماذا هذه المرة ؟!
نظرت إليه في تسليم مشوب بالقلق ثم قالت وهي تقبله
ـ كما تحب، كل سنة وانت طيب حبيبي.
بمجرد أن فتح الباب سمع صوته المرح يرحب به ـ كعادته - من غرفة النوم
ـ اهلا يا جميل، لماذا تأخرت ؟ تأكل شيئاً ؟!
فرد كالمعتاد
ـ أيوه ياجدو
فسمعه مثل كل مرة يأمره
ـ طيب أغلق الباب جيداً وأحضر لنا شيئاً نأكله سوياً .
أغلق الباب بإحكام ودخل، رائحة البيت أول من يستقبله دائمًا، ذلك المزيج العجيب الذي لا يمكن أن يتكرر في أي مكان آخر، هي أخلاطٌ من اللافندر مع الليمون مع قرفة ومسحة بقايا من بخور المسك الأبيض، الأماكن مثل البشر، كلٌ له بصمته ورائحته المميزة التي لا تشبه غيره.
شعر كأنما الجدران تحتضنه، الجدران العالية، الشاهد الصامت أبدًا، ارشيف الذاكرة المعروض لأجيال العائلة منذ قرابة قرن مضى، صور، وبراويز قديمة لرجال صارمي النظرة، معممين ،ومطربشين، وآخرين أحدث تؤرخ لأحداث ولقاءات، رحلات، صور زفاف ببراويز مذهبة مخدوشة، ووجوه لمواليد في اللفة أصبحوا اليوم أجداداً وجدات.
داخل شقوق الجدران السارحة تختبئ ذكريات السنين، حب، لهفة، معاناة، وألم، بهجة أعياد ولت، وحفلات أقيمت، وأحزان طواها النسيان، تكاد تردد صدى ضحكات وأغاني وأسرار وأيضًا دموع وآهات، كل شيء هنا يشعره بالاكتمال وبالأمان.
تأمل أشياءه المبعثرة في كل ركن، نظارته، عصاه، كتبه ومكتبته النادرة، أوراقه، ساعة يده ذات الطراز القديم، صور أطفال العائلة مدسوسة تحت زجاج الطاولة المشروخ، وعليها عدة القهوة مهجورة حزينة، والكنكة النحاسية فوق السبرتاتية تنعي أوقاتاً مؤنسة دافئة، وصحبة طيبة تعرفها.
كم طوقتها أنفاسهم وحكاياتهم وأسراراهم أثناء تلقي المزيج السحري للسان اللهب الخافت الهادئ وحرارة الحديث وحميميته، فيسوي البن على مهلٍ، وتفوح رائحته المحوجة بالحبهان.
كم جلسا معًا في الشرفة يحتسيان القهوة المضبوطة من يده، الشرفة أكثر مكان بالبيت مفعمٌ بالأنس والحيوية، أصص الزرع الصغيرة على السور مستسلمة لأشعة شمس الظهيرة، تنتظر جلسته المسائية، وطقوسها المعروفة.
دخل الشرفة يتأمل كل شيء فيها، كومة الصحف على طاولة الجريد الصغيرة، بجانبها طبق التسالي ذو الغطاء الشفاف، الراديو الترانسستور القديم الملفوف بأساتك لتثبيت البطاريات من الخلف هاهو يرقد صامتًا، تعلوه طبقة سميكة من التراب، كرسيه الهزاز ذو المساند الملونة المشغولة بخيوط الكورشيه، طيفه حاضر في المكان بشكل عجيب، كأنه سيدخل الآن بضحكته ومرحه وقهقهته.
تلك التركيبة الإنسانية الفذة، كان عجوزًا شابًا، أو شابًا عجوزًا، بخفة دم ممزوجة بروح مشبعة بالحكمة وحب الحياة وعشق الاستمتاع بكل التفاصيل والأشياء البسيطة، حتى في أحلك الظروف كان يبتسم ابتسامة الواثق الموقن من أن كل شيء سيكون على ما يرام وسط تجهم الجميع واستنكارهم لهذا التفاؤل المفرط اللامنطقي الذي يقترب من أن يكون مستفزًا وسؤال أمي العصبي:
كيف بربك يابابا؟!
فيرد بكل ثقة:
غداً سترون، لاتخافوا، ربنا معانا !!..
فينظر إليه في وجوم، وكان شيءٌ داخله يجعله دائمًا يصدقه ويطمئن.
كان كنـزاً من الطاقة الإيجابية، بمجرد كلمات بسيطة وروح متفائلة وتصرفات عجيبة ومبهجة، صانعًا للبهجة والأمل، ضحكته الرنانة ومداعباته للجميع، سخريته اللاذعة مما لا يعجبه، حكمته التي لا يمل من ترديدها
(دع الأمور تجري في أعنتها، ولا تبيتن إلا خالي البال)
مشوار كفاحه منذ أن كان صبيًا مراهقًا حتى خرج على المعاش حتى عندما داهمته آلام الذبحة الأخيرة ـ وكان معه - لم يرد أن يفزعه، فأول ما قاله بعدما سقط على الأرض واندفع هو نحوه قائلاً في رعب
ـ ياجدو... مابك ؟!
فقال وهو يصارع أنفاسه:
لاتخف أنا بخير!!، أحضر الدواء تحت اللسان، واتصل بالدكتور.
رأى نفسه هنا بين جدران البيت طفلاً مدللاً يلاعبه بالكرة، ثم مراهقًا مشاغبًا، يـجادله ويلاعبه الشطرنج، ويصر على أن يسن قانونًا جديدًا ـ من أجل جدو- أن يقول له كش وزير قبل أن يأكله!! فتكثر الضحكات والصيحات عن فضيلة الأعتراف بالهزيمة فكان يرفض الهزيمة محتقن الوجه ثائرًا على سرعة الحفيد الخاطفة في النقلات، فكيف لاستاذ اللعبة ومعلمها للابناء والاحفاد أن يهزم بهذه السرعة أمام الحفيد الصغير العفريت، ثم يضحك وهو يكرر كلمة (عفريت)!!
ثم شابًا يسنده في خطواته المرتبكة، ويشاركه الطعام والشراب، ويذكره بمواعيد الدواء، وليالي الصيف، وسماع الأغاني القديمة، وتحليلاته لها التي يصر أن يشرحها له، والسهر في الشرفة حتى مطلع الفجر، ومتابعة مباريات كرة القدم، وما يصحبها من انفعالات وصيحات وتعليقات، والفشار البيتي الذي كان يعده بنفسه له، وأكواب القرفة باللبن الساخنة في ليالي الشتاء، التي يحلو فيها الحكي، فينعم بحديثه العذب عن زمان، وأيام زمان، وروايته لنفس الحكاية مرات ومرات دون أن يمل، وكان يسمعه كل مرة كأنها أول مرة رغم حفظه للحكاية عن ظهر قلب.
كان يصر على الاحتفال بيوم ميلاده، بطقس وحيد لا يغيره، وهو أن يخبز له فطيرة التفاح التي يعشقها، ويستعين في ذلك بمفكرة جدته (فيفي) التي بها المقادير والطريقة بخط يدها، ويلبس مريلتها، ويحضر المقادير، كأنه يمارس طقوسًا مقدسة، ومقدم على عمل كبير، وعندما يسأله في سخرية ولؤم :
أنت تعرف المقادير والطريقة جيداً، لماذا المفكرة؟!
فيرد معاتبًا:
يا مغفل!! هكذا أشعر أنها معى!!
كنا دائمًا نخبزها سويًا يوم تجمع العائلة!
وعندما تفوح الرائحة من الفرن يهلل قائلاً:
الله... الله... شامم ريحة القرفة، يالا يا جميل كل سنة وانت طيب
ثم يأكلاها سويًا، ويلاحظه مع كل قضمة يغمض عينيه ويستمتع بالطعم قائلاً:
تسلم أيدينا يافيفي!!.
استبد به حزنٌ طاغٍ، وفراغ موحشٌ، فجلس مهدودًا على كرسيه الهزاز يتهدهد، وأدار الراديو، فانطلق صوت الست شجيًا، يواسيه ب "عودت عيني على رؤياك"، فأنهار تماسكه الذي اتقنه الأيام السبعة الماضية وبكى، ماذا تفعل الدموع؟!
دموع الدنيا كلها لن تعيد الوجوه الغائبة، ولا الدفء المفقود. ولكنها غمرته براحةٍ، وسكينة مفاجئة، واسترخاء كامل شمله من رأسه حتى قدميه، كأنه ثقل محبب تسلل إلى أعصابه وقاده إلى سِنة من النوم، فرأى نفسه كما هو في الشرفة، وقد جاءه مبتسمًا راضيًا ـ كعادته - رائق الوجه، مشدود الجسد، بنظرته المرحة الحبيبة، وجلس قبالته في هدوء دون كلمة، ثم التفت متأملاً وريقات نبتة العطر بجانبه على السور، والتي بدأت تجف وتذبل، وقال بصوته الطيب وهو ممسكٌ بها في إشفاق:
أنا عارف أنك حزين!!
ثم ابتسم بوداعة وهو مازال يتأمل وريقات العطر.
أما هو، فنظر إليه غير مصدق لما يرى، أراد أن يهب واقفًا يحتضنه، فلم يستطع الحركة.
أراد أن يتكلم فلم يستطع. استرسل الجد، وهو مازال يتأمل نبتته، وقال بجدية لم يعهدها فيه:
الحزن ليس أمرًا سيئًا!!، بل هو جزء من الحياة، وهو بمثابة ميلاد جديد للنفس!، فنحن نولد من جديد مع كل حزن يعتصر القلب!
أما الفرح فهو لا يفعل ذلك، أنه يلهيك، وقد يلوث براءتك ونقاءك بالزهو والغرور!!، أما الحزن، فهو يطهرك، ويُذهب خبث النفس ويجلي الرؤية، تخيل إنسانًا لا يحزن ولا تهزه الحوادث، كيف يعيش بولادته الأولى, وبأدرانه المكدسة طول العمر؟!!
ولكن احذر من الاستغراق فيه، فهو مثل بحرٍ بوسع الكون وقدمه، لابد أن تقف أمامه متأملاً
أو تخوض بزورقك الصغير سطحه وأمواجه، لكنك لا تريد أبدًا أن تغرق فيه.
ثم ابتسم ابتسامة عريضة ملأت وجهه المضيء كشمس صغيرة وهو يربت على كتفه قائلاً:
فمبارك عليك مولدك الجديد ياجميل!!
وهم منصرفًا ثم التفت متذكرًا وقال وهو يشير إليها:
لا تنسَ أن تسقي زرعاتي.
…
بقلم
زينب الفضالى
مصر
